الخوف
في السنوات الأخيرة أثار اهتمامي ازدياد الشكوى من الخوف … الخوف يداهم القلوب بكثرة هذه الأيام … كثيرون يخافون بلا سبب .. أو لسبب واه مضحك .. البعض يخاف إلى حد الرعب … أحياناً يشل الخوف حياة الإنسان .. يسلبها مذاقها ويحرمه من أي متعة .. والخوف يجلب الحزن والأسى والشفقة على النفس .. الخوف يجلب الإحساس بالهوان والضعف .. والخوف مذلة .
الخوف ينسف الثقة بالنفس ويجعل الإنسان حائراً عاجزاً منطوياً يراقب ذاته المنهارة ويحسد الآخرين على الطمأنينة التي يشعرون بها .
إنه يشعر أنه قليل وضئيل وهزيل ومحدود ، ولا يسع الإنسان إلا أن يكره نفسه وهو الذي يسعى طلباً للعلاج .. وفي العيادة النفسية تكون المصارحة والمواجهة .. ربما لأول مرة يواجه نفسه يقول بصوت مرتفع أنا خائف ..يعري نفسه بلا حرج لا يخشى نقداً أو تجريحاً أو مهانة أو احتقاراً أو اعتداء .
*** وأقصى أنواع الخوف هو الخوف من الناس أو الخوف من شخص معين . أو خوف من مجموعة معينة من الناس .. خوف بلا سبب وبلا معنى .وبذلك يتحاشى أي موقف يعرضه لمقابلة أو مواجهة الناس ، يسيطر عليه إحساس غريب بأنه سيتعرض لنقدهم أو اهانتهم .. بأنه قد يرتكب حماقة تعرضه للسخرية أو سيرتكب خطأ يعرضه للاستهزاء . أو قد يتصور أنه سيتعرض للاعتداء .. ويحمل هم الدنيا كله في قلبه إذا كان عليه ، أو إذا كان مضطراً لمقابلة الناس .. عذاب يتلوى به وهو ذاهب لمقابلة أحد أو حضور أي مناسبة وكأنه يساق للموت وينتهز أي فرصة للهرب ويشعر بالارتياح العميق إذا استطاع أن يتفادى المواجهة واللقاء .. ولكن هذا يمثل مشكلة مستمرة لصاحبنا ويكون غير راض عن نفسه .. يشعر بالألم لخوفه وهروبه وخاصة أنه خوف بلا مبرر وبلا معنى .. خوف بلا سبب .. ولكنه خوف يرعبه ويهزه من الداخل .. خوف يسيطر عليه سيطرة تامة ..
وهذا الخوف قد يعوق تقدمه في عمله . إذ عليه أن يعطي تقريراً عن عمله لزملائه أو رؤسائه أو مرؤوسيه كل أسبوع ولكنه يجد صعوبة بالغة في ذلك وحين يحاول يكون غير مقنع وغير مؤثر .
أسوأ يوم لديه هو صباح يوم السبت حيث الاجتماع الأسبوعي وحيث مطلوب منه أن يتكلم .. وأسوأ ليلة ينام فيها هي تلك الليلة التي تسبق ذلك الاجتماع . ويعتذر عن مناسبات أو لقاءات أو سفريات ويرسل الرجل الثاني في العمل أو يرسل زميله بدلاً عنه حتى لا يضطر لمواجهة الناس .
المشكلة قد تبدأ في الطفولة وتزداد تدريجياً حتى مرحلة المراهقة حيث تتفاقم وتصبح مصدر تعاسة حقيقية له وتصبح معوقة له في حياته ، فالخوف له مظاهره كارتعاش أطرافه ولذا لا يستطيع الكتابة في وجود الآخرين . وقد يتلعثم إذا بدأ في الكلام وتطير الأفكار من رأسه ويزداد نبض وعنف قلبه ويغزر عرقه في كل أجزاء جسمه .. هذا بالإضافة إلى الرهبة التي يشعرها بداخله .
وقد تزداد الصعوبة في مواجهة الجنس الآخر فيجد مشقة بالغة في التحدث مع فتاة فينعقد لسانه تماما أو يقول كلاما بلا معنى .. والصعوبة تشتد في وجود أكثر من فتاة أو في مجموعة بها خليط من الشبان والفتيات . لذا فهو منذ البداية بلا شلة .. بلا مجموعة من الأصدقاء – لا يشارك في أي نشاط .. لا يذهب إلى رحلة ... لا يشارك في أي مناسبة
هذا الإنسان قد يلجأ إلى الكحول أو إلى استخدام المهدئات بدون استشارة الطبيب لتقلل من حدة روعه وخوفه ، أو لكي يستعد لمواجهة موقف معين .. وهذا خطأ كبير لأن هناك أسلوباً طبياً علاجياً معروفاً لهذه الحالات ولا داعي لأن يزج صاحب المشكلة بنفسه في طريق قد يقوده إلى الإدمان أو التعود على مواد يصعب التخلص منها وقد يكون لها آثارها الضارة على جسده .
وهذا النوع من الخوف يجعل الإنسان يتنازل عن حقوق كثيرة له ولا يستطيع أيضاً أن يدافع عن نفسه كما لا يستطيع أن يواجه الآخرين بأخطائهم وبغيهم وتعديهم . وبذلك يتصاعد احساسه بالأسى وبالظلم وبضياع حقوقه وبالضعف .
*** والخوف قد لا يكون من الناس ولكن من الوحدة يخاف حين يكون وحيداً .. ولا يشعر بالاطمئنان إلا في وجود الآخرين . يخاف من الأماكن العامة .. يخاف من الأماكن المتسعة يخاف من الشارع .. لا يمكن أن يسير وحيداً .. لا يمكن أن يذهب إلى مكان ما بمفرده .وإذا اضطر لذلك انتابه الخوف الذي يصل إلى حد الذعر والعرق والارتعاش . وضربات القلب العنيفة والإحساس بعدم بالاطمئنان والاحساس بأنه على وشك أن يفقد وعيه أو قد يداهمه شعور بأنه على وشك الموت .. وكيف يهرب إذن من هذا المكان !! كيف ينجو بنفسه!!.
هذا هو لب أو صميم مشكلته . شعوره بأنه إذا تعرض لشيء فإنه لن يستطيع الهرب من هذا المكان .. نفس الشعور يداهم من يخاف من الأماكن الضيقة أو الأماكن المزدحمة أو الأماكن المغلقة كالمصعد والسيارة .. إنه يخشى حين ينتابه الخوف ألا يستطيع أن يفلت من هذا المكان .. ولذا فإن الذي يخاف من مثل هذه الأماكن يشعر بالارتياح إذا اطمأن أنه وقت اللزوم يستطيع الهروب أي يستطيع أن يغادر المكان أو يغادر السيارة تزداد طمأنينته إذا كان أحد من أفراد عائلته بصحبته . بعض الناس لا يستطيعون مغادرة بيوتهم إلا إذا كانوا بصحبة أحد يعرفونه ويثقون به . وبذلك قد يجد الشخص صعوبة بالغة في الوصول إلى مكان عمله .
وإذا اضطر مثلاً لأن يمشي بضع خطوات بمفرده تهاجمه كل أنواع القلق الحاد ويشعر بنفس الأعراض إذا استقل مثلاً سيارة عامة ..
وهنا قد تتصاعد مشاعر الخوف التي قد تصل إلى حد الذعر ولا يهدأ إلا إذا وقفت به السيارة وتركها . هذا الإنسان يكون دائم الحزن والقلق والضيق والتبرم ولا يرضى عن حياته ويواجه صعوبات عائلية كثيرة وكذلك صعوبات في عمله وخاصة إذا لم يفهموا ماذا يعاني وكيف يعاني .. وهنا يأتي الشق الاجتماعي المهم لهذا المرض .. أنه مرض له ارتباط بالناس المحيطة .. الأسرة والعمل .. الزوجة سوف تغضب لأن زوجها لا يصطحبها للخارج وكذلك الأولاد .. أو قد تضجر لاضطرارها لمصاحبته لعمله كل يوم .. والعمل قد لا يقدر كيف يعاني حتى يصل إلى مكان عمله ويضغطون عليه وقد يضطرونه للقيام بأعمال تقتضي انتقاله من مكان إلى مكان .
وبذلك تتضاعف معاناة صاحبنا لأن أحداً لا يقدر ولا يفهم حقيقة مرضه .. وقد لا يصدق أحد أن هناك مرض .. وهذه هي أعراضه .
*** والخوف الذي يسبب أيضاً إزعاجاً شديداً لصاحبه وللمحيطين به هو الخوف من المرض .
وبعض الناس لديهم قليل من الوسوسة المرضية إذا تعرضوا لمصادر عدوى أو إذا سمعوا عن مرض خطير ولكن سرعان ما يتغلبون على وساوسهم ولكن صاحبنا دائم الخوف على نفسه .
دائم القلق خوفاً من أن يصاب بالمرض .. أي عرض يشعر به يتصور أنه بداية أو مقدمة لمرض خطير .. أي ألم في صدره معناه ذبحة صدرية وأزمة قلبية . وأي الم في رأسه معناه ورم في المخ أي تنميل ف أصابعه معناه أن الشلل وشيك الوقوع .
وحين يقلق تتضاعف الأعراض العضوية التي يشعر بها فيزداد وهمه واحساسه بأنه قد تعرض للخطر فعلاً .
الأهل والأصحاب يضجون من كثرة شكواه ومخاوفه ولكن هذا الإنسان يتألم فعلاً ويعذبه خوفه .. يحتاج إلى من يطمئنه في كل لحظة .
*** والخوف قد يكون من أشياء بسيطة محددة . لكنه خوف أيضاً بلا معنى .. خوف لا مبرر .. خوف مبالغ فيه خوف لا يشاركه فيه الناس .. الخوف من الحيوانات والحشرات التي لا تضر الإنسان ولا يخاف منها إنسان آخر .
قد يشعر إنسان بعدم الارتياح في وجود قطة أو كلب بجواره ولكن صاحبنا يصاب بالذعر والهلع والصراخ والقلق الحاد إذا مرت بجواره قطة .. وهو على استعداد لأن يقطع طريقاً طويلاً ملتوياً ليتفادى المرور بمكان يقف فيه كلب .. هذا النوع من الخوف يضايق صاحبه لأنه خوف بلا مبرر ولأنه يسبب له حرجاً اجتماعياً .
*** وقد لا يكون هناك مصدر لأي خوف ولكن تنتاب الإنسان حالات من الرعب أو قد نسميها قلقاً حاداً .. هذه الحالات قد تنتابه وهو يجلس وحيداً أو مع الناس أو هو يشاهد التليفزيون أو وهو مسترخ على شاطئ البحر .. أي في أي مكان .. وفي أي وقت دون أي سبب خارجي .. خوف شديد يصل إلى حد الرعب ويصاحب ذلك أعراض مختلفة منها :
- ضيق في التنفس .
- الاحساس بضربات القلب .
- آلام في الصدر .
- صعوبة في البلع وكان شيئا يسد بلعومه .
- دوخة .. دوار .. عدم اتزان أثناء السير .
- الاحساس بالاندهاش والاستغراب لكل شيء حوله وكأنه يحلم أو وكأنه منفصل عن الواقع .
- سخونة أو برودة في كل جسده .
- عرق غزير .
- إغماء .
- ارتعاش في كل الأطراف .
- الخوف من الموت ، أو يشعر أنه على وشك أن يفقد عقله أو أنه سيقدم على فعل شيء لا يستطيع التحكم فيه . هذه الحالات قد تستمر دقائق أو ساعات . وقد تعاوده من وقت لآخر .. وقد تظل ملازمة له شهوراً .. وهو أمر مضن ومرهق يفسد حياته وأوقاته ويزعج من حوله الذين يجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم . كيف يساعدونه ؟ كيف يطمئنونه .؟ هم أيضاً يشعرون بالعجز ، إذ لا شيء يفلح في التخفيف من حدة الحالة أو إزالتها .
**** مريض الخوف يحتاج إلى من يصدقه .. يحتاج إلى من يقدر أنه فعلاً عاجز عن التحكم في مخاوفه . مريض الخوف هو ذاته يعرف أن مخاوفه لا أساس لها ولكنه لا يستطيع أن يكف عن الخوف الذي يصل إلى حد الرعب أحياناً .
إنه يحتاج إلى من يطمئنه ويهدئه بلا كلل .. يحتاج إلى من يسانده في رحلة العلاج الوجه المطمئن يبعث على الطمأنينة والوجه الباسم يشيع التفاؤل والثقة .. ووسائل العلاج كثيرة ومتعددة منها العلاج النفسي والعلاج السلوكي .. والعقاقير تلعب دوراً كبيراً وأساسياً في علاج المخاوف .. والعقاقير المهدئة لا تسبب إدماناً والطبيب يصفها لوقت محدد ثم يسحبها تدريجياً .. التوقف المفاجئ عن العقاقير يتسبب في حالة من القلق الحاد والخوف والرعب يشعر بها المريض . وقد يظن المريض حينئذ أنه أصبح مدمناً لا يستطيع الاستغناء عن المهدئات . ولكن الحقيقة أنه لا إدمان مع المهدئات ولكن لا يمكن التوقف عنها بشكل مفاجئ . ومضادات الاكتئاب علاج ناجح جداً للحد من المخاوف والطبيب هو الذي يحدد نوع العقار والجرعة ومدة الاستعمال وطريقة السحب .
ولكن لابد من مساهمة الأهل وصبرهم وعدم ضغطهم على المريض ومن منا لا يخاف !! ومن منا لا يشعر بالقلق أحياناً وبدون سبب .. ومن منا لا يهاجمه الوسواس أو بشأن صحته أو بشأن أشياء تافهة !! من منا لا تطارده أحيانا الأفكار السوداء التشاؤمية حتى تستهلك جزءا من وقته وأعصابه .. ولكن الخوف الذي يشعر به كل إنسان قد ينقلب إلى مرض .. مرض يسبب عذاباً ويحتاج إلى علاج ومساندة إنسانية .
" من كتاب إعرف نفسك ط2 1997، للمؤلف
الاختلاف بين عقل الرجل وعقل المرأة
معلومات وتساؤلات
الدكتور جمال الخطيب
اختصاصي الطب النفسي
مدير قسم الطب النفسي والأورام في مركز الحسين الطبي / المدير الفني لمشفى الرشيد سابقاً / عمّان
وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقت
كريمة غير أنثى العقل والحسب
لو سألنا أي من أعضاء الحركات النسائية أو أنصار حرية المرأة عن رأيه"ها" فيما قاله المتنبي ، وهل هو قدح أم مدح لما تردد"ت" في الإجابة أنه يحمل إهانة ما بعدها إهانة للمرأة ، فهو يقول إنها وإن كانت أنثى إلا أن عقلها ليس بعقل أنثى ، يبقى أن نشير إلى أن المتنبي قد قال ذلك في سياق حزنه وإبداء إعجابه وإكباره وتقديره لأعز من عرف وهي أخت سيف الدولة ، ولم يجد ما يمدحه بها أفضل من أن يقول أن عقلها ليس عقل أنثى ، ولو عدنا للماضي أكثر قليلاً ونظرنا لما قاله الإمام علي كرّم الله وجهه في معرض ذمه لمن خذلوه " يا أشباه الرجال ولارجال حُلومُ الأطفال وعقول ريات الحجال " معيرا إياهم بعقولهم الأنثوية .
على مر الزمن تباينت وجهات النظر تجاه الاختلاف بين المرأة والرجل فمنهم من رد ذلك إلى المجتمع الرجولي وسيطرة الذكر وتداعياتها ، ومنهم من رأى أن مصدر الفرق بيولوجي .
بداية لا بد لنا من إلقاء نظرة قريبة عن الدماغ البشري ومن ثم نحاول الوصول إلى الفرو قات في دماغ الذكر والأنثى ، وطريقة عمل كل منها ، وهل هذا بفعل التباين الاجتماعي أم هو صانع هذا التباين .
يتكون الدماغ البشري من حوالي 100 مليار خلية تتصل ببعضها عبر شبكة بالغة التعقيد من الحبال العصبية ، ويصل عدد نقاط الاتصال على كل خلية حوالي 10 آلاف نقطة اتصال ، وهذه الأرقام تعطينا فكرة عن تعقيد عمل هذه الشبكة .
وتتجمع معظم هذه الخلايا لتشكل القشرة الدماغية ويتباين تركيزها وكثافتها في المناطق المختلفة لتشكل مجموعات عمل مختلفة تكون بمجموعها مجمل عمل الدماغ ، وهو ما يسمى بالعقل ، ويقسم الدماغ مناصفة إلى قسمي رئيسي الأيمن والأيسر ، ويقسم كل منهما إلى مجموعة فصوص ، الجبهي والصدغي والجانبي … الخ ، يؤدي تجمع الخلايا في كل منها جملة وظيفية تتكامل مع الوظائف الأخرى ، فمثلاً يعنى الفص الجبهي بالحركة العضلية الإرادية في حين تعنى مقدمته بطبيعة الميول الشخصية للفرد ، فيما يقوم الفص الجانبي بوظيفة التحسس ، ويشتمل الفص الصدغي على الجهاز الحافي المسؤول عن العواطف والغرائز ، ويعتبر قسم الدماغ المحتوي لمراكز الكلام هو الجزء المسيطر ، وهو على الأغلب الجزء الأيسر في مستعملي اليـد اليمنى ، مما يؤشر على أهمية اللغة في تكوين السلوك البشري ، ويذكرنا بالحديث النبوي الكريم " المرء بأصغريه قلبه ولسانه "
بقي أن نعرف أنه فيما يتحدُ عدد خلايا الدماغ جينياً وخلقياً فإن الصلة بين هذه الخلايا تتكون بفضل التجربة البشرية بين البشر فيما بعضهم ، وبينهم وبين البيئة وما يحتمل في داخل الفرد الواحد ، ولعل كل تجربة خاصة أو ذات مغزى تخلق شبكتها وخطوطها الخاصة وتخزن في الذاكرة مما يمكن استرجاعها عن طريق الذاكرة ، وكلما كانت التجربة أكبر وأكثر عمقاً كان ما تؤسسه داخل الدماغ وما ترسمه من خطوط أكثر وضوحاً ، ولعل فيما يقال أدبياً أن الأيام تحفرأثرها على الدفاع البشري له جانب كبير من الصحة ، وإذا كان الدماغ هو الجهاز فإن العقل يشكل الوظيفة الكلية ، وفي اللغة العربية فإن العقل يعني الربط والنهي والسيطرة والتحكم وقد ورد في لسان العرب"العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها" ، وهو ما يشابه المفهوم الفرويدي للانا والانا العليا ، وقد لامس الشاعر الكبير المعري هذا المفهوم حين قال :
نهاني عقلي عن أشياء كثيرة
وطبعي إليها بالغريزة جاذب
موضحاً بذلك الدور الكابح للعقل على الغرائز والموائم بالتالي للرغبات الملّحة مع الواقع المتاح .
وفي الفقه الإسلامي وردت كلمة عقل بالترادف أحيانا وبالدلالة الجزئية أحيانا أخرى مع ,قلب,روح, ونفس, فقد ورد في الذكر الحكيم"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" وقلب هنا بمعنى عقل.وقد روي عن ابن عباس انه قال: لكل إنسان نفسان, إحداهما نفس العقل الذي يكون به التمييز, والأخرى نفس الروح الذي به الحياة.
وعودة لموضوعنا فإذا ما ألقينا نظرة مقارنة على عقل الرجل والمرأة فإننا نجد الفروق تتكون على النحو التالي : يزيد عدد الخلايا في عقل الرجل عن تلك في عقل المرأة بحوالي 4% في حين تزداد بشبه شبكات الاتصال في عقل المرأة أكثر من الرجل ، وهذا يعني بالواقع العملي أن النساء أكثر تأثراً بالتجارب من الرجال وأكثر احتفاظا بها ، وتذكرا لها وفي العلاقات بين الرجل والمرأة قد يلاحظ الرجل تذكر المرأة للآثار الشخصية للأحداث بما يدهشه أحياناً كأن تذكر بأنه لم يتذكر عيد ميلادها قبل 10 سنوات أو أنه أو أمه قد قالت لها كلمة جارحة في أحد المواقف من سنوات .
وفيما يتعلق بتمايز وظائف عن أخرى نجد أن المناطق المتعلقة باللغة استقبالا أو إرسالاً هي عند المرأة أكبر من الرجل بنحو 13% استقبال و23% إرسال ، في حين أن المناطق المتعلقة بالقياس والأبعاد والتجسيم هي عند الرجل أكثر ، وبهذا نجد في الحياة العملية أن المرأة تميل للتحدث أكثر وشرح المشاكل في حين يميل الرجل للصمت .
وقد تشكو المرأة من أنها لا تجد آذاناً صاغية من زوجها في حين قد يشكو هو من كثرة تدقيقها وحديثها في التفاصيل ، وحتى في المجال العاطفي فإن المرأة تتأثر بحديث الرجل ,بل وحتى في نغمة حديثه, وسلوكه الدافئ أكثر من مظهره "فالأذن تعشق قبل العين أحياناً " ، في حين أن الاستثارة العاطفية عند الرجل تبدأ بالمظهر, وبالمصطلح العلمي فإن الرجل يكون (Visuspatial) في حين أن المرأة (Verbal) .
وفيما يتعلق بالصلة بين الدماغ الأيمن والأيسر نجد أن هذه الصلة أوسع لدى المرأة ولذلك في بعض حالات الجلطات الدماغية المؤثرة على مراكز النطق يكون تأثر المرأة أقل وشفائها أسرع .
وأما الجهاز الحافي (Limbic System) وهو الجهاز المسؤول عن العواطف والغرائز فإن ذلك الجهاز في المرأة أكبر من الرجل وأكثر أثراً على السلوك ، ولذلك فإن المرأة أكثر ملاحظة للتغيرات العاطفية بأي شكل لفظي أو حسي أو حركي ، كما أنها أكثر وأدق تعبيراً عن عواطفها من الرجل كما أنها أكثر قدرة على الارتباط والرعاية ومن الراجح الآن أن الجهاز الحافي مسؤول عن غريزة الأمومة وبغض النظر عن تباين الثقافات لم يعرف ولا يعرف عن أي مجتمع شكل فيه الرجل الراعي الرئيسي للأطفال .
وفي العلاقة بين الرجل والمرأة تحديداً بحد أن الرجل يميل للاستقلالية والسيطرة ، وتمثل قيم التراتبية وحتى العدوانية له أهمية كبرى في حين تميل المرأة إلى أن يقدرها الرجل لذاتها لا لمكانتها الاجتماعية أو لإنجازها ، وهذا لا يعني أن المرأة لا تعنى بالإنجاز وإنما ما تقصده يتعلق بالعلاقة الثنائية .
وقد عزت بعض الدراسات الاجتماعية سيطرة الذكورة وقيمها وتحديداً العدوانية والتراتبية إلى عدة عوامل منها الندرة والصراع على الموارد والانتقال إلى المرحلة الرعوية ، في حين كان يقال أنه في المرحلة السابقة كان تقسيم العمل قائماً على قدرة الرجل العضلية وتفوقه في تقدير الإبعاد والمسافات واستخدام ذلك في الصيد ، وعلى قدرة المرأة الغريزية في البحث عن الأمان والرعاية .
وإذا ما أمعنا النظر في الدراسات الإحصائية المتعلقة بالأمراض النفسيةعلى ضوء الفروق التشريحية و الاجتماعية لوجدنا أن هناك توازناً في الأمراض التي يطغى عليها العامل البيولوجي في حين أن الأمراض المتأثرة بالبيئة وتحديدا الاجتماعية إضافة إلى العامل البيولوجي ، تكون المرأة أكثر تأثراً بها ، فمثلاً مرض الفصام يتساوى انتشاره بين المرأة والرجل في حين أن المرأة أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بالنسبة 1:2 ، بل لوحظ أنه في الأطفال تتساوى النسبة ، بينما يبدأ الفرق بالأتساع بعد سن المراهقة أي بعد اتضاح الدور الاجتماعي لكل منهما مما قد يشير إلى العبء الملقى اجتماعيا على المرأة وأثر ذلك عليها سلباً .
وفيما تشكل محاولات الانتحار في النساء ثلاثة أضعاف مثيلاتها في الرجال فان عدد الرجال الذين يموتون بسبب الانتحار يصل إلى أربع أضعاف عدد النساء ولعل مرد ذلك يرجع إلى عنف الأساليب المستخدمة من قبل الرجال كإطلاق النار كما أن الرجال أكثر تحوطاً وأقل تعبيراً عن مشاعرهم ونواياهم.
أمراض القلق تبدو نسبتها في النساء أعلى من الرجال فيما عدا حالات الوسواس القهري والرهاب الاجتماعي وفي حين تتجه البحوث إلى المزيد من التفسير العضوي لمرض الوسواس القهري, يعزى عدد الرجال المتزايد في الرهاب الاجتماعي إلى كونهم أكثر عرضة للمواقف المرسبة لأعراض الرهاب مثل الخطابة والاجتماعات العامة وما إلى ذلك.
أمراض الطعام مثل الكهام والنهم العصبي وكذلك الأمراض النفسجمية والأعراض التحويلية التي تتسم بالصراع النفسي العميق على مستوى الشخص نفسه ومستوى شخص-شخص ومستوى شخص ظروف يبدو أيضا أن المرأة أكثر عرضة للإصابة بها من الرجل.
أما حالات الخرف فإن عدد النساء اللواتي يعانين من مرض ألزهيمر مثلاً اكبر من عدد الرجال في حين أن الحالات الحادثة أو الجديدة متساوية ولعل مرد ذلك إلى أن معدل أعمار النساء أطول من الرجال, وفي السابق كان يعتقد أن السبب يكمن في أن عدد خلايا دماغ المرأة اقل بنسبة 4% إلا أن هذا الأمر يبدو بحاجة إلى المزيد من الاستقصاء على المستويين البيولوجي والإحصائي.
وبعد...أين ينتهي البيولوجي وأين يبدأ الثقافي والاجتماعي والبيئي؟؟ وكيف يؤثر كل في الآخر ؟ وأيهما السبب وأيهما النتيجة ؟ .. سؤال طرح نفسه على العقل البشري بأكثر من شكل وعلى مر العصور من الجبر والقدر الى الجينات والبيئة..
الصحة النفسية وحرارة الصيف ..
الدكتور لطفي الشربيني
استشاري الطب النفسي / الإسكندرية
lotfyaa@yahoo.com
يأتي فصل الصيف هذا العام .. بحرارته المعتادة في ظروف وأجواء غير عادية يعيشها العالم في حالة توتر وقلق جماعي، وذلك بسبب الحروب والصراعات والأحداث المتلاحقة .. خصوصاً ما شهدته منطقة الشرق الأوسط في الفترة الماضية من مشاهد مأساوية تابعها الناس في هذه المنطقة وفي العالم بتأثر شديد.
ويعيش العالم حالياً عصر الاضطرابات النفسية كما يدل على ذلك الأرقام والإحصائيات التي تؤكد أن ما يقرب من نصف سكان العالم يعانون من نوع أو آخر من الأمراض النفسية .. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الإصابة بحالات القلق النفسي تصل إلى 30% في بعض المجتمعات، وحالات الهلع والمخاوف المرضية بنسبة 12%، والاكتئاب النفسي بنسبة 7%، والوسواس القهري بنسبة 3%، وذلك بالإضافة إلى مرض الفصام العقلي بنسبة 1% .. وهذه مجرد أمثلة للانتشار غير المسبوق للأنواع المختلفة من الأمراض والاضطرابات النفسية التي تصيب الإنسان في مختلف بلاد العالم .. وهنا في هذا الموضوع نتناول بعض الجوانب الخاصة بالعلاقة بين الحالة النفسية وحالة الطقس بمناسبة جو الصيف الحار الذي نعيشه في هذا الوقت.
الطقس الحار والحالة النفسية:
شغلت العلاقة بين الحالة النفسية والتغييرات الجوية الأذهان منذ زمن طويل، حين لاحظ الإنسان ارتباط حالة الطقس في فصول السنة مع حالة المزاج كما يظهر ذلك في تراث الأدب والشعر والفنون، فنسمات الربيع تنفس النفس وتبعث العواطف الإنسانية الرقيقة، بينما حرارة الصيف وبرد الشتاء حالات ترتبط بالانفعالات النفسية الحادة، والخريف مرتبط في الأذهان بالذبول والهدوء والسكون، وجاء العلم الحديث ليؤكد وجود علاقة بين حالة النفس من حيث الاتزان الانفعالي، والمزاج في اعتداله واضطرابه وسلوك الإنسان، وبين التغييرات الجوية من خلال تأثيرات كهربائية ومغناطيسية كونية يتفاعل معها عقل الإنسان والجهاز العصبي، وتكون المحصلة النهائية تغييرات بيولوجية في جسم الإنسان مع حرارة الصيف وبرد الشتاء وكذلك تغييرات نفسية في عقله تبدو في صورة اعتدال أو اضطراب في المزاج وتوتر أو استرخاء في الانفعال والسلوك .
ثبت علمياً أن الجو الحار الرطب يرتبط ارتباطا مباشرا باضطراب الحالة العقلية، فالشخص العادي يصبح أكثر قابلية للتوتر وتسهل استثارته إذا كان متواجدا في طقس حار مشبع بالرطوبة، وكثير من الناس يفقدون السيطرة علي انفعالاتهم وينفذ صبرهم في هذا الطقس الذي يتميز به الصيف في بلادنا، كما أن الجو حار ونسبة الرطوبة الزائدة تدفع غالبا إلى الكسل وتحد من النشاط، وهذا ما نجده في البلاد الحارة بينما يرتبط الجو البارد في البلاد الأخرى بالنشاط والحركة وزيادة الإنتاجية، لكننا نرى أن ذلك لا يجب أن نتخذ منه سببا نتعلل به لنبرر أن الدول المتقدمة لها مناخ بارد وأن حرارة الجو عندنا تمنعنا من الإنتاج والتقدم !!
حرارة الجو وحالة الجسم والعقل:
ومن المعلومات الطبية المعروفة أن حرارة جسم الإنسان الطبيعية ثابتة حوالي 37 درجة مئوية، وفي الجهاز العصبي للإنسان وغيره من الحيوانات مراكز تقوم بضبط حرارة الجسم في مستوى ثابت بتحقيق اتزان بين إنتاج الحرارة من عملية احتراق المواد الغذائية التي نتناولها وبين فقد الحرارة من سطح الجسم حيث يساعد على ذلك العرق الذي يتبخر فيخفض حرارة الجسم في الطقس الحار، كما أن الرعدة تسرى في الجسم لينتج حرارة أكثر في الجو البارد.. ولكن يبقى السؤال عن علاقة حرارة الجسم بالحالة النفسية مدى تأثيرها على العمليات العقلية .
ومن المعروف أن المرضى الذين يعانون من الحمى وارتفاع درجة الحرارة تبدأ لديهم أعراض عقلية في صورة تخاريف وهلاوس، وتتحسن حالتهم وتعود قواهم العقلية للوضع الطبيعي بمجرد انخفاض درجة الحرارة ، وفى المقابل فإن العلاج عن طريق رفع درجة الحرارة أو العلاج بالحمى يعانون من بعض الأمراض العقلية المستعصية بميكروب الملاريا حتى يصاب المريض بحمى متقطعة ثم يعالجهم بعقار الكينين فتتحسن حالتهم، كما أن العلاج يخفض درجة الحرارة أو التبريد قد استخدم في بعض الحالات العضوية والعقلية على حد سواء.
وقد وصف بعض العلماء حالات من الهستيريا مصحوبة بارتفاع في درجة حرارة الجسم تم شفائها وخفض درجة الحرارة بالعلاج النفسي، وفى الطب العربي يذكر الطبيب "ابن العباس المجوسي"(384هـ) في كتابه" كامل الصناعة الطبية" نوعاً من الحمى أسماه "حمى الذبول" من أسبابها الهم والتعب والغم والغضب ونصح بأنه "ينبغي أن لا يدمن الإنسان الغم ولا يستعمل الغضب ولا يكثر من الهم والفكر".
معتقدات شعبية طريفة:
من المعتقدات الطريفة ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض العقلية مع موسم ظهور نبات "الباذنجان " ومن الناحية العلمية فإن الأمر لا يخلو من قيام هذه العلاقة بين حرارة الجو والرطوبة من ناحية .. وبين زيادة حالات التوتر النفسي ، وعودة نوبات المرض العقلي إلى الحالات التي لديها قابلية للإصابة به من الناحية الأخرى.
وتشير الإحصائيات حول أعداد المرضى العقليين المترددين على العيادات والمصحات النفسية في مختلف أوقات العام إلى الارتباط بين فصول السنة وبين زيادة أعداد الحالات، تؤكد الأرقام أن شهور السنة التي تزيد فيها نسبة الرطوبة وترتفع درجة الحرارة ترتبط بمعدلات عالية من الاضطرابات النفسية.
وحين تبدأ نسمات الخريف بعد الصيف الحار.. تأتي معها بشائر الأمل والتفاؤل، والخروج من أجواء التوتر والمتاعب المصاحبة لحرارة الصيف إلى حالة من الاستقرار النفسي، ورغم أن الصيف كان موسم الإجازة، وقدوم الخريف إيذاناً بالعودة إلى العمل والدراسة، لكن يظل الخريف يحمل الآباء إلى أعمالهم والأبناء إلى مدارسهم، وذلك مقارنة بحالة الفوضى التي سادت خلال الصيف والإجازة حين كان الأبناء يسهرون طوال الليل وينامون نهاراً ، والآباء يعانون مواجهة مشكلات وقت فراغ أبنائهم ويبذلون الجهد في الحد من انطلاقهم. وقبل أن نودع الصيف ومتاعبه .. وتنتهي مشكلات الإجازة وما بها من ضغوط وتوتر، فإن الإجازة بقدر ما هي فترة للترويح عن النفس والانطلاق والاستمتاع وتجديد النشاط فإن له مشكلات وسلبياتها، وعالم النفس "هولمز" حين قام بدراسة الضغوط والمواقف الصعبة التي تواجه الناس في حياتهم فقد وضع ضمن هذه القائمة الإجازة لما تعنيه من فوضى في حياة الإنسان، وملل في وقت الفراغ قد يؤدى إلى كثرة المشاحنات ومزيد من التوتر، وأخيراً نؤكد أن على الإنسان التكيف مع مختلف الأوقات والفصول طالما أن الخالق سبحانه قد أعطاه الطاقة التي تضمن له ذلك مهما تغيرات البيئة الخارجية من حوله .. وعلى كل منا أن يتمسك دائماً وفى كل الأوقات بالأمل والتفاؤل وقبول الحياة، والأيمان بالله الخالق الدائم.. مع تمنياتي للجميع بإجازة صيفية ممتعه .. وأوقات سعيدة.
تعدد الزوجات والطب النفسي ..
الدكتور لطفي الشربيني
استشاري الطب النفسي / الاسكندرية
lotfyaa@yahoo.com
في هذا الموضوع عرض لوجهة النظر النفسية لمسألة تعدد الزوجات التي أصبحت أحد الموضوعات التي يتم مناقشتها بصورة مكثفة على مستويات متعددة .. ويمكن النظر إلى تعدد الزوجات Polygamy على أنه ظاهرة خاصة بالمجتمعات العربية ودول الشرق الإسلامي، وكانت هذه الظاهرة ولا تزال محل اهتمام واسع في الشرق والغرب على حد سواء، وهناك الكثير من التساؤلات تطرح وتبحث عن إجابة لها منها:
- هل يمثل تعدد الزوجات مشكلة، أم هو حل للمشكلات الأسرية والاجتماعية؟
- هل تكفي زوجة واحدة ؟ .. أم أن التعدد مطروح كحل يجب اللجوء إلية عند الضرورة ؟
- هل هناك قبول اجتماعي لهذه الظاهرة .. وما رأي الرجال والسيدات في مسألة التعدد؟
- لماذا طفت هذه القضية على السطح وأصبحت مثار اهتمام الجميع في الفترة الأخيرة؟
وهنا في هذا الموضوع نتناول تعدد الزوجات وهو المسألة التي قتلت بحثاً من جانب كل أصحاب الأقلام، وتعددت حولها الآراء حتى أصبحت موضوعاً للتشابك والتراشق بين مؤيد ومعارض .. لكن تناولنا لهذه الظاهرة سيكون من وجهة النظر النفسية لطرح هذه الرؤية في جو من الحياد بين الآراء المتضاربة ..
لماذا موضوع تعدد الزوجات الآن؟
يعتبر موضوع تعدد الزوجات من الأمور المثيرة للجدل، والتي ترتبط في الأذهان بكثير من المفاهيم والأفكار والانفعالات النفسية للمرأة والرجل على حد سواء، ولم تعد هناك حاجة إلى المزيد من الدلائل على أن هذا الموضوع قد أصبح في مقدمة اهتمامات الناس في المجتمعات العربية بعد أن تابع الجميع العمل التليفزيوني الذي يمكن تصنيفه فنياً بين المسلسلات بوصفه اجتماعي أو كوميدي أو درامي، والذي أثار المناقشات والجدل على نطاق واسع في مختلف الأوساط نظراً لمشاهدته بصورة مكثفة عند عرضه، ونظراً لموضوعه وهو تعدد الزوجات، وما يتعلق به من حساسيات بالنسبة للزوجات والأزواج أيضاً، وذلك بالإضافة إلى جوانب هذا الموضوع الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والشرعية، وكذلك الجواب النفسية في مسألة تعدد الزوجات والتي هي موضوع اهتمامي بحكم عملي في مجال الطب النفسي، والتي نعرضها هنا بإيجاز، ونبدأ بالنقاط التالية كمدخل إلى الموضوع :
- الاهتمام بالحديث والجدل الذي يدور حول تعدد الزوجات حالياً هو تحريك لقضية قديمة لها أهميتها للرجل والمرأة على حد سواء، وليس مصادفة أن تطفو على السطح حالياً وتمثل مسألة جادة يجب أن تكون موضع اهتمام ومناقشة موضوعية حتى وإن ارتبطت في الأذهان بالطرائف والإيماءات والابتسامات.
- من وجهة النظر النفسية فإن المشكلات الزوجية أصبحت تشكل عبئاً كبيراً على العلاقات الأسرية والاجتماعية في السنوات الأخيرة، وأستطيع تأكيد ذلك ليس فقط في العيادة النفسية لحالات الاضطراب النفسي في الرجال والسيدات التي تنشأ عن الصراعات الزوجية ولكن أيضاً من خلال الملاحظة ورصد الخلل الذي أصاب علاقات الزواج في المجتمع العربي، ومنها بعض من حالات أصدقاء أعرفهم، وحتى حالات الجرائم الأسرية على صفحات الحوادث في الصحف.
- الهوس الذي أثاره عرض المسلسل الذي تسبب في الكثير من الانفعالات وردود الأفعال النفسية بين مؤيدين معظمهم من الرجال الذين شعروا بالارتياح لهذا العرض المقبول للنموذج الإيجابي لتعدد الزوجات، وبين المعارضين ومعظمهم من السيدات أصحاب الأقلام النسائية في الصحف الذين وصل الأمر بهم إلى الانفعال الهائل وتحريك شعارات ومصطلحات كبيرة منها مثلاً " ثقافة الجواري " ، و" القهر"، ومنها " تسلط الرجل"، و" حقوق المرأة " .. وحتى " حقوق الإنسان " أيضاً.
الجوانب النفسية للظاهرة :
وهنا نقف أمام الرؤية النفسية لظاهرة تعدد الزوجات، وهي ليست حكراً على المجتمعات العربية الشرقية، وليست مرتبطة فقط بالثقافة الإسلامية رغم أنها - من المنظور الإسلامي – عمل مشروع، وممارسة لها ضوابطها في القرآن والسنة، وتسمح بها بعض المجتمعات البدائية أيضاً كما تسمح بها بعض الطوائف المسيحية مثل المورمون Mormoon، وفي دراسة نفسية منشورة حول بعض الجوانب النفسية لتعدد الزوجات قمت
بها على عينة من السيدات وتم مناقشتها في مؤتمر عالمي للطب النفسي، وكذلك تم نشرها في دوريات علمية، وفيها تم عرض الحقائق التالية حول تعدد الزوجات:
تشير الأرقام إلى أن ظاهرة الزواج المتعدد ليست واسعة الانتشار في البلدان العربية، وطبقاً للإحصائيات المتاحة فإن النسبة في مصر هي 4% من حالات الزواج، وتزيد قليلاً لتصل إلى حوالي 5% في سوريا والعراق بينما تصل في دول الخليج إلى نحو 8% ، لكن هذه الأرقام الرسمية لا تعبر عن واقع الحال حيث توجد نسبة
أخرى من الحالات تمثل الزواج غير الرسمي أو غير الموثق الذي يطلق عليه أحياناً العرفي أو السري.
يتراوح الاتجاه attitude والقبول الاجتماعي لتعدد الزوجات في المجتمعات العربية بين التسامح مع الظاهرة وقبولها في دول الخليج إلى القبول الجزئي في أماكن أخرى مثل المجتمع المصري، أو الرفض التام والمنع بموجب قوانين مثل ما يحدث في تونس، ولكن في بلد أخر هو السودان هناك دعوة رسمية وتشجيع لتعدد الزوجات، لكن الغالب أن وصمة ما ارتبطت بالزواج المتعدد ونظرة عامة اجتماعية لا ترحب بتكرار الزواج وتنظر لمن يفعل ذلك على أنه قام بعمل غير مقبول .
دراسة نفسية لتعدد الزوجات في المجتمعات العربية ؟
ورد في الدراسة عرض للأسباب النفسية والظروف الاجتماعية التي تدفع إلى التعدد وكان في مقدمتها التركيبة النفسية للرجل التي تميل إلى التعدد بصورة فطرية حتى أن دراسة حديثة أشارت إلى وجود جينات تدفع الرجال إلى ممارسة التعدد بعلاقات خارج نطاق الزواج في الشرائع التي لا تسمح بتعدد الزوجات بما يفسر انتشار خيانة الأزواج على حد التعبير الغربي .
وركزت الدراسة على رد فعل الزوجة الأولى التي تكون الطرف الأكثر تأثراً,, والآثار النفسية السلبية للزواج المتعدد، وتم وصف متلازمة مرضية تصيب الزوجة بعد أن يتزوج شريكها بأخرى تبدأ برد فعل عصبي برفض هذا الزواج الثاني وإبداء الغضب والمقاومة، ثم تتجه الحالة إلى الاستقرار والاتزان مع قبول الواقع الجديد في فترة زمنية تتراوح من 6 شهور إلى عامين. وإذا كان في هذه الدراسة محاولة علمية جادة لفهم الجوانب النفسية لظاهرة اجتماعية هامة فإنني أعتبر أن الوقت الحالي فرصة مناسبة لطرح هذا الموضوع في سياق أكثر شمولاً من مجرد طرح وجهات نظر متناثرة وتراشق في وسائل الإعلام بين أطراف يتهم كل منها الآخر ويدافع عن وجهة نظر شخصية، بل يجب طرح المسألة لمناقشة يشترك فيها المتخصصون وتتناول كل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والدينية بعيداً عن التحيز، وبحيث تكون المحصلة ذات فائدة تؤدي إلى حل لمشكلات الصراعات الزوجية وتسهم في إعادة الاتزان إلى الأسرة والمجتمع.
اعتبارات نفسية حول تعدد الزوجات :
وهنا نذكر بعض النقاط التي نرى أن توضع في الاعتبار عند مناقشة القضايا المتعلقة بالزواج المتعدد:
- يجب تناول هذه المسألة بهدوء ودون حساسية من جانب السيدات والرجال، والابتعاد عن الإثارة والرؤية الجزئية للموضوع التي تركز على بعض الآثار السلبية للزواج الثاني، أو تكتفي بعرض نماذج معينة والحكم العام من خلالها على التجربة.
- نحن مع التركيز على المنظور الديني الذي يتفق تماماً مع المنظور النفسي في النظر إلى الزواج المتعدد كحل
لمشكلات نفسية واجتماعية وسلوكية قبل أن يكون مصدراً لآثار سلبية، وذلك إذا ما تم في إطار الضوابط الشرعية في الحالات التي تراعي القدرات والظروف الإنسانية وتضمن أن يتم في إطار من العدالة دون ظلم أو ضغط على أي طرف من الأطراف .
- لابد من البدء بإزالة الوصمة والمفاهيم والاتجاهات المختلفة التي تربط الزواج الثاني في الأذهان بالسلبيات
فقط أو بمجرد إشباع الدوافع الغريزية، وليحل محلها نظرة أكثر شمولاً على أنه حل مشروع ووسيلة فعالة لإعادة التوافق والاتزان إلى العلاقات بين الرجل والمرأة في إطار أسري سوي، وأنه بديل جيد مقبول فيه وقاية وتجنب للمشكلات السلوكية والصراعات الزوجية، ولا يجب رفضه كلياً.
وفي ختام هذا العرض الموجز حول هذه القضية التي نرى أنها تهم قطاعات كبيرة من فئات المجتمع فإنني أتقدم باقتراح تم تطبيقه مؤخراً في بريطانيا .. حين تم إدخال مناهج دراسية يتم تدريسها للفتيات في مراحل التعليم الأولى حول دور المرأة في الزواج وتكوين الأسرة بغرض إعداد زوجات وأمهات المستقبل في وقت مبكر، وأرى أنه قد حان الوقت لنفكر في خطوات مماثلة يكون من شأنها وقف التدهور الذي نلاحظه حالياً في علاقات الزواج والذي يهدد بانهيار الأسرة في المجتمعات العربية، وليس هذا الكلام من قبيل التشاؤم بل يؤيد ذلك الأرقام التي تؤكد تزايد نسبة الطلاق لتصل إلى أكثر من 30%، كما تشير إحصائيات أخرى إلى وجود ملايين من السيدات اللاتي يعشن بمفردهن دون زواج، وتتطلب هذه الأوضاع مواجهة وحلول ملائمة..
والأمل معقود هنا على تدخل من الجهات المختلفة وفي مقدمتها الإعلام الذي كان له فضل تحريك هذه القضية على هذا النحو، وغير ذلك من الجهات الرسمية والأهلية المختلفة، والتي يجب أن تأخذ دورها في حماية المجتمعات العربية، وهذه المجتمعات يجب أن تكون في حالة سوية لأنها تمثل الوحدات الأساسية التي يتكون منها المجتمع .
فوائد المصائب .. و" رب ضارة نافعة "
هناك أكثر من أسلوب واحد أو فكرة واحدة يمكنها أن تقلب حالة مشاعرنا من الكآبة إلى السعادة وإن لم تكن كذلك فهي تخفف من الحزن الذي يعترينا ، وهذا الأسلوب لا يكلفنا مالاً أو جهداً ولكن نحتاج بعد استيعابه إلى تطبيقه وممارسته .. فقد يعرف الناس أشياء كثيرة في صالحهم إلا أن المشكلة التي لا يستشعرون أهميتها هي عدم ممارستهم لهذا الأسلوب الذي قد يبدو غير هام ، مع أن تأثيره كبير ولكن أغلب الناس لا يعلمون ..
غالباً ما يشعر الناس بضيق وتوتر وحزن عندما يخسرون شيئاً ما أو يتوقعون خسارته ، وتعتمد درجة الضيق على نوع الشيء الذي خسرناه أو نتوقع خسارته فقد يكون هاماً جداَ بالنسبة لنا وقد يكون أقل أهمية ، فالأفراد يختلفون في درجة تقبلهم للخسارة وطريقة تفكيرهم وطريقة تعاملهم معها .
وقد يكون هذا الشيء - الذي نخاف خسارته - منصباَ معيناَ أو إنساناَ عزيزاَ أو وظيفة أو نجاحاَ دراسياً …الخ . وبعض الناس يبالغ في خوفه وقلقه إلى درجة اعتقاده أنه بخسارته هذه سيخسر كل شيء وأنه في كارثة ليس لها مثيل ، وغالباً ما نكون أثناء هذه الحالة مركزين ذهنياً على مساوئ الخسارة ولا يتبادر إلى ذهننا أن في هذه الخسارة مكاسباً بل قد تكون المكاسب أكبر وأكثر من الخسارة ، فالمثل العربي " رب ضارة نافعة " لم يأت من فراغ .
عزيزي القارئ : قبل أن نهديك فكرة هذا الموضوع البسيطة والمؤثرة ، والتي تعرفها ولكن تنساها ولا تتأمل فيها غالباً ، اسمح لي أن أعرض عليك هذا الموقف الواقعي الذي قرأته :
في أحد المطارات نام أحد المسافرين في إحدى الرحلات الجوية في قاعة الانتظار وهو ينتظر موعد الإقلاع وصحا فجأة من نومه والطيارة تقلع فجن جنونه وشعر بكآبة شديدة لم يشعر بمثلها من قبل ، فإذا سألته عن أهمية الرحلة التي خسرها سيحكي لك خسارات فادحة ، وما هي إلا دقائق وإذا بالطائرة تنفجر أثناء الإقلاع ، ورغم أن الحادث كان مريعاً إلى أنه شعر أنه ولد من جديد وقال رب ضارة نافعة .
قد يقول البعض إن هذا من باب الصدفة .. وهنا سأنطلق من جانب فلسفي وهو أن لكل شيء في الحياة فائدة ولكننا غالباً لا نرى فوائد كثير من الأشياء ، فالنار المحرقة هي نفسها التي تسلق لنا البيض اللذيذ ، ومن التاريخ عبرة فكثير من الناس وجدوا أنفسهم في ظروف مؤلمة تجلب الحزن والاكتئاب ، وكانت هذه الظروف تحمل الفائدة والسعادة اللاحقة لأصحابها ومن هذه الظروف سجن ابن تيمية ساعده على إنتاج جل فتاواه ، وحبس السرخسي في الجب ساعده على تأليف كتابه المشهور ( المبسوط ) ، وسفر ابن القيم وبعده عن أهله ساعده على تأليف كتابه ( زاد المعاد ) ، ومرض ابن الأثير الذي أقعده ساعده على تأليف كتبه الرائعة ( جامع الأصول ) و ( النهاية ) ، وفقر وتغرب المحدثين جمع لنا آلاف الأحاديث ، وفقدان بصر أبي العلاء المعري والبردوني وغيرهم أنتج لنا شعراَ مميزاً ، وكتابة طه حسين لمذكراته بعد عماه ، وظروف دستويفسكي وتولستوي والسياب وغيرهم من يتم وفقر وغربة ساعدهم على إنتاج أدب قوي مؤثر ، وكم من أناس بعد عزلهم من مناصبهم قدموا للأمة أضعاف ما قدموه وهم في مناصبهم ؟
وهكذا نجد أن ما نعتقده ضاراً قد يكون غير ضار بل قد يكون نافعاَ .. ففي سورة النساء يقول تعالى : ( عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراَ كثيراً ) ( النساء – آية 19) وجاء في تفسير الجلالين وابن كثير أنه إذا كرهتم النساء فعسى بصبركم عليهن يعوضكم الله خيراً كولد صالح . وكان موسى عليه السلام يعتقد أن فعل الخضر ضار ، فقد رأى الخضر يقتل طفلاً ويهدم جداراً ويخرم سفينة ، فاستنكر فعل الخضر وكان رد الخضر عليه كما في قوله تعالى :( ألم أقل أنك لن تستطيع معي صبرا ) ، ثم قام الخضر بإيضاح ما لم يفهمه موسى عليه السلام كما جاء في قوله تعالى ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناَ وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراَ منه زكاة وأقرب رحما ) ( الكهف – آية 80، 81) .
وقد يشعر البعض أن هناك خططاً ودسائس ومكراً تدبر لهم وقد تنفذ بعضها مما يجعلهم يكتئبون ويضيقون وإذا بالسحر ينقلب على الساحر وتتحول نتائج الضرر إلى فوائد كقوله تعالى ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ( الأنفال – آية 30 ) .
وقد يضطر الإنسان للكذب دفاعاَ عن نفسه معتقداً أن الكذب قد ينقذه وهو مخطئ في اعتقاده كما جاء في الحديث الشريف ( تحروا الصدق فإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة…إلى آخر الحديث ) .
وهكذا بإمكاننا أن ننظر لما نعتقده ضاراً إما بالنظر إلى فوائده ، أو نقوم بتعديله لنجعله في صالحنا ، فالليمون الحامض بإمكاننا أن نعدل فيه بتقطيعه وخلطه مع قليل من الماء والسكر فيتحول إلى عصير حلو ، وإذا لم نستطع التصرف أو التفكير في الفوائد فعلينا بالصبر فإن ما نعتقده ضاراً قد كتبه الله لنا ، وقد يكون فيه النفع الغائب عن أعيننا وأذهاننا قال تعالى (( عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) ( البقرة – آية 216) .
ومما سبق رأينا كيف أن القرآن الكريم والحديث الشريف وقصص كثيرة عبر التاريخ وتأملات فلسفية في كنه الأشياء وأفعال تعايشها يومياً كل ذلك يؤكد أن ما نعتقده ضاراً قد يكون نافعاً ، وعلينا أن نثق بذلك ونبحث عن مكمن الفائدة ، أو كيف نعدل في الظرف بما فيه الصالح ، وإن لم نستطع شيئاً من تفكير أو تعديل فعلينا بالأيمان بما هو مكتوب والصبر وبهذا نكون قد كسبنا كل شيء كما جاء في الحديث الشريف ( عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خير له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن ) .
فهل عزيزي القارئ تستطيع بعد كل هذا أن تتأمل في فوائد المصائب وتستفيد منها ؟ وأقلها أنها تدربك على مواجهة الصعاب مستقبلا فالسوط الذي لا يكسر ظهرك يقويه .
الأربعاء، أبريل 18، 2007
((خواطر نفسيه))
حررت بواسطة
أحمد عاطف
فى
الأربعاء, أبريل 18, 2007
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق